صعود وسقوط
الدولة الماركسية الوحيدة في العالم العربي وروابطها مع القرن الإفريقي
محمد خير عمر
ظهرت جمهورية
اليمن الديمقراطية الشعبية (جنوب اليمن) عام 1967,ثم تحولت تدريجييا كالدولة الماركسية الوحيدة في
العالم العربي، على تحالف وثيق مع الاتحاد السوفييتي، ومحاولةٍ لزرع العقيدة
الشيوعية في مجتمع قبلي. كان ذلك اختبارًا أيديولوجيًا قاسيًا غذّى الاضطراب بدل
الاستقرار. خلال الحرب الباردة، دعمت جنوب اليمن عدّة ثورات إقليمية،
فيما نخر تدخلُ القوى الخارجية والانقلابات والاغتيالات وصراعات الأجنحة جسدَ
الدولة من الداخل. ثم جاءت حرب يناير 1986 الدموية لتطيح بجزء كبير من القيادة،
تاركةً الدولة ممزقةً عسكريًا واقتصاديًا واجتماعيًا. ومع انهيار الاتحاد
السوفييتي، دخل الجنوبُ عام 1990 في وحدةٍ مع شمال اليمن بقيادة علي عبد الله
صالح—زواج قسري بين اشتراكية جنوبية وحكمٍ شماليٍّ يزاوج بين السلطوية والبُنى
القبلية والدينية. وكما كان متوقعًا، تفككت الوحدة سريعًا؛ فأنهت حرب 1994 هامشَ
استقلال الجنوب. تُجسد تجربة الجنوب كيف تتصادم الأيديولوجيا مع سياسات الهوية
والجغرافيا السياسية للقوى العظمى، وكيف تفشل نسخُ النماذج المستوردة. اليوم، لا
يزال اليمن مضطربًا: الحوثيون يسيطرون على
الشمال، وحراكُ الجنوب يستعيد زخمه، فيما تعقّد تدخلات الخليج المشهد.
روابط
اليمن بالقرن الإفريقي
روابط
اليمن بالقرن الإفريقي حميمةٌ وقديمة. جغرافيًا، عند مدخل
البحر الأحمر الجنوبي، تكاد الضفتان تتلامسان: نحو 65 كلم تفصل
ساحل إريتريا قرب عَصَب عن جزيرة بريم/ميون اليمنية، فيما يضيق باب المندب إلى 30 كلم تقريبًا بين رأس سيان (جيبوتي) ورأس منهلّي
(اليمن). ثقافيًا، ترتبط الكتابة المسندية اليمنية القديمة بقرابة وثيقة مع الجعزية،
لغة كتابة التيغرينية والتيغرايت والأمهرية. وتشير دراساتٌ إلى انتقال جماعات الحبشة/الحبشيت
والأقازِي من اليمن إلى إريتريا وشمال إثيوبيا، مسهمةً في نشأة حضارة أكسوم؛ كما
تُرجع بعضُ سلاسل العفر جذورها إلى الضفة الأخرى. في العصر الحديث، ساند جنوب
اليمن حركاتِ التحرير الإريترية، ثم أنظمة “ثورية” في الصومال وإثيوبيا. وأثناء
حرب 1977–1978 بين الصومال وإثيوبيا، تعاطف الرئيس سالم ربيع علي (سالمين) بدايةً مع الصومال، لكن الغلبة
مالت للمعسكر السوفييتي دعمًا لإثيوبيا وصولًا إلى إرسال قوات. لاحقًا تدهورت
العلاقات مع إريتريا خلال نزاع جزر حنيش في ديسمبر/كانون الأول 1995. وفي 1998،
منحت التحكيمات الدولية معظم أرخبيل زقر–حنيش لليمن وبعض الجزر الصغيرة لإريتريا،
مع ترسيم للحدود البحرية؛ ونفّذ الطرفان القرار سلميًا.
اليمن
الشمالي: لمحة تاريخية
خضع اليمن
الشمالي لقرونٍ طويلة لحكم الإمامة الزيدية—مذهبٌ
شيعيٌّ بملامح فقهية قريبة من السنّة—جمع بين السلطة الدينية والقبَلية. وبعد
انسحاب العثمانيين عام 1918، قامت المملكة المتوكلية بقيادة الإمامين يحيى وأحمد،
بنظامٍ أبويٍّ حافظ على عزلة البلاد وبطئها، رغم تسرب الحداثة عبر التجّار
والعائدين والطلبة. في 1962، أطاح
ضباطٌ متأثرون بثورة ناصر في مصر بالنظام الإمامي وأعلنوا الجمهورية، فاندلعت حربٌ
أهلية بين الملكيين المدعومين من السعودية والأردن وبريطانيا، والجمهوريين المدعومين
من مصر ودول اشتراكية، حتى 1970
وهكذا صار
اليمن ساحةً لحروب الوكالة في الحرب الباردة ومسرحًا للصراع القومي العربي. وقد
دعم ناصر حركاتِ التحرير الأفريقية من الجزائر إلى غانا نكروما وكونغو لومومبا.
حربٌ أهلية
وتصفية استعمار وولادةُ يمنين (1962–1970)
في الشمال،
دارت حربٌ أهلية بين الجمهوريين المدعومين مصريًا والملكيين المدعومين سعوديًا.
أرسلت مصر نحو 60 ألف جندي وخسرت قرابة 10 آلاف، واستنزفتها “فيتنام مصر” قبل هزيمة 1967. انتهت الحرب عام 1970 بانتصار
الجمهوريين وإلغاء الإمامة الزيدية واعتراف السعودية بالجمهورية العربية اليمنية.
في الجنوب،
حوّلت بريطانيا وجودها الطويل في عدن (منذ 1839) إلى مستعمرة عدن ثم اتحاد الجنوب
العربي، لكن الكفاح المسلح اندلع في 1963 بقيادة جبهتين: جبهة
التحرير القومية (NLF) وجبهة تحرير جنوب اليمن (FLOSY) المدعومة من مصر. وبعد انسحاب بريطانيا في 30 نوفمبر 1967، تفوقت NLF وأعلنت جمهورية
اليمن الجنوبية الشعبية بقيادة قحطان الشعبي. وفي 1969،
أطاح الراديكاليون به في “حركة تصحيح”، وصعد سالم ربيع علي. وبحلول
1970 تبنّى الجنوب الماركسية وأضحى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (PDRY). وتركت الشقاقات السوفييتية–الصينية أثرها على تماسك
كوادر الدولة الجديدة.
أثر
الانقسام السوفييتي–الصيني (الخمسينيات–الستينيات)
قسم
الانقسامُ السوفييتي–الصيني العالمَ الاشتراكي بين لينينية مركزية بموسكو وماوية
ثورية ببكين تتهم السوفييت بخيانة الشيوعية. وصل صداه إلى الجنوب اليمني وحزبِه
الحاكم الحزب الاشتراكي اليمني
مال سالم ربيع علي (سالمين) إلى النموذج
الصيني القائم على تعبئة الجماهير، فيما تبنّى عبد الفتاح إسماعيل الصرامة
السوفييتية وتصدير الثورة. وحاول علي ناصر محمد إدارة توازنٍ براغماتي بين
النهجين. وتسرّبت المنافسات من أسئلة السلطة والاصطفاف الخارجي إلى سياسات الحياة
اليومية: كيف تُباع الخضار—في السوق أم عبر الدولة؟
وهل المروحة والثلاجة “رفاهية” أم حاجة ضرورية؟ كانت تلك قشرةً لجدلٍ أعمق حول وتيرة
التحوّل الاجتماعي، وحدود سطوة الدولة، وموقع الجنوب في خارطة الحرب الباردة. ومع تخندق
الأجنحة داخل الجيش والأمن وشبكات القبائل، ظل الجنوب هشًا ومأزومًا—ائتلاف رؤى متعارضة أكثر منه دولةً اشتراكية موحّدة.
انقلابات
الشمال العاصفة
بعد انسحاب
مصر عام 1967، فقد الجمهوريون سندهم الأهم. وفي نوفمبر 1967، أطاح انقلابٌ
بالقيادة الراديكالية لصالح عبد الرحمن الإرياني
(1967–1974)، الذي انتهج مصالحة مع الملكيين والقبائل، وانتزع اعتراف
السعودية، ثم حاول استقلاليةً أغضبت حلفاءها. في 1974، استولى إبراهيم
الحمدي (31 عامًا) على السلطة سِلمًا، فقلّص نفوذ المشايخ، وحارب الفساد، ومهّن
مؤسسات الدولة، ووسّع البنى والخدمات، وقوّى جمعيات التنمية المحلية، وفتح قنوات
حوارٍ مع الجنوب مهّدَت لاحقًا لفكرة الوحدة. جاء اغتياله في 1977—المُنسب إلى تحالف نخبٍ متضررةٍ وأيادٍ سعودية—ليُنهي “فرصةً ضائعة”، ويُخلّد
صورته كقائدٍ نظيفٍ مصلح.
اغتيالٌ
على طريقة “خاشقجي”: نهاية رئيسٍ مُصلِح
في 11 أكتوبر 1977—عشية زيارةٍ مقررةٍ إلى
عدن—استُدعي الرئيس إبراهيم الحمدي إلى منزل نائبه أحمد الغشمي، قيل تحت ضغطٍ
سعوديٍّ لوقف الرحلة. في اليوم نفسه قُتل شقيقه عبد الله، قائدُ قوات المغاوير،
بالمكان ذاته بعد استدراجه. رُويت شهاداتٌ عن دورٍ لِـعلي عبد الله صالح في إبعاد
حُرّاس الرئيس. عُثر لاحقًا على جثماني الشقيقين في منزلٍ آخر، إلى جانب امرأتين
فرنسيتين قيل إنهما استُخدمتا لتلويث سمعته. تتهم رواياتٌ لاحقة الغشمي وصالح والملحق
العسكري السعودي بترتيب العملية، رفضًا لمسعى الحمدي إلى وحدةٍ شمالية–جنوبية ومبادرة
أمن البحر الأحمر في مارس 1977. سريعًا، خلف الغشميُّ الحمدي في الرئاسة.
مقتل
رئيسين في يومين
بعد اغتيال
الحمدي، تولى أحمد الغشمي الحكم في صنعاء، لكنه قُتل في 24 يونيو 1978
عندما انفجرت حقيبةُ مبعوثٍ جنوبي داخل القصر الجمهوري—ورُبطت العملية برئيس
الجنوب سالم ربيع علي (سالمين). بعد 48 ساعة، اعتُقل سالمين في عدن وأُعدم وسط صراع أجنحة اليمن
الاشتراكي بين معسكره البراغماتي وتيار عبد الفتاح إسماعيل المتشدد. في الشمال،
صعد علي عبد الله صالح—المتهم أصلًا بالتورط
في اغتيال الحمدي—إلى الرئاسة، ليحكم 33 عامًا (1978–2011). وفي الجنوب، تولى عبد الفتاح إسماعيل القيادة
(1978–1980) قبل نفيه، مؤكّدًا اتساع الاضطراب الفئوي.
صراعات
الجنوب الداخلية
بحلول 1978، تحوّلت الجبهة القومية إلى الحزب الاشتراكي اليمني، لكن
اللافتة الجديدة أخفت شقاقاتٍ أعمق. فرض عبد الفتاح إسماعيل
(1978–1980) رؤيةً ماركسيةً–لينينيةً صلبةً متحالفةً بقوة مع الاتحاد
السوفييتي وألمانيا الشرقية: حزبٌ واحد، وقمعٌ
للمعارضة، وسياسةُ “تصدير الثورة” من ظفار إلى القرن الإفريقي—ما وضع الجنوب في
مواجهةٍ مفتوحة مع السعودية وشمال اليمن والغرب. اتسعت الفجوة داخل الحزب: دعا
المتشددون إلى تحولٍ اشتراكيٍّ سريع وتوحيدٍ فوريٍّ على أسسٍ اشتراكية، فيما طالب
المعتدلون بالبراغماتية—تليين الإيديولوجيا،
ترميم العلاقات العربية، وتقديم التنمية. كشفت حرب 1979 مع الشمال كلفة المغامرات
الأيديولوجية.
في أبريل
1980، دفعت الضغوطُ إسماعيلَ إلى الاستقالة والنفي إلى موسكو، فخلفه علي ناصر محمد
وسعى إلى تليين المواقف، وتحسين العلاقات العربية، وخفض التصعيد مع الشمال. لكن الصدوع
لم تُرمَّم. في 1985، عاد
إسماعيل من منفاه بضغوط المتشددين؛ وفي مؤتمر الحزب الثالث (أكتوبر)، دخل مجددًا
المكتبَ السياسي. انقسمت عدن أيديولوجيًا وجهويًا وقبليًا،
وسرّب الطرفان السلاح لأنصارهما انتظارًا لـ“لحظة الحقيقة”. حُدد اجتماعٌ حاسمٌ
للمكتب السياسي في 13 يناير 1986. سبق علي ناصر خصومه، فانفجر المشهدُ بحربٍ خاطفة.
اجتماع
المكتب السياسي… الإشارةُ إلى أفول الماركسية
في 13 يناير 1986، تحوّل اجتماعُ المكتب السياسي في التواهي/عدن
إلى فخٍّ دموي: غاب أنصار علي ناصر عمدًا، واقتحم حرسُه
الاجتماع، فقُتل قادةٌ عديدون، وفرّ عبد الفتاح إسماعيل قبل أن تظلّ نهايته غامضة. اندلعت حرب 12 يومًا (13–25 يناير) بالدبابات والمدفعية
والطيران، دمّرت عدن؛ وبعد عشرة أيام، فرّ علي ناصر بعائلته وآلاف أنصاره إلى
الشمال، وبحلول 25 يناير أحكم معسكر علي
سالم البيض قبضته على العاصمة—بثمنٍ فادحٍ قُدّر بـ 7–10 آلاف قتيل وتصفيةِ
الصف الأول من الحزب. كسرت المجزرة عمود الجنوب الفقري سياسيًا وعسكريًا
واقتصاديًا، وسرّعت انحداره، ودَفعت فكرة الوحدة من طموحٍ إلى ضرورة. ومع أفول الشيوعية عالميًا، قدّمت وحدة 1990 لعلي عبد
الله صالح عمقًا استراتيجيًا، ومنحت قادة الجنوب طوق نجاة؛ لكنها جاءت غير متكافئة،
فحَسم الشمالُ الكفة، وتخمّرت المظالم حتى حرب 1994 التي أنهت محاولةَ الجنوب
القصيرة لاستعادة دولته. هكذا يُظهر مسار الجنوب كيف تُطيح الأيديولوجيات
المستوردة وصراعات الأجنحة ورياح القوى العظمى بمشاريع ثورية طموحة.
الخلاصة
انتهت التجربة
الماركسية لجنوب اليمن بالدم والانهيار، لكن صداها لا يزال حاضرًا. فـيمن اليوم يحمل
آثار تلك الحقبة: مظالم جنوبية بلا إنصاف، وإرثٌ سلطوي،
ونفوذُ جيرانٍ أقوياء. لم يَطوِ سقوطُ الجنوب صفحة اليمن فحسب، بل مثّل أيضًا تراجع
الاشتراكية العربية، فاتحًا المجال أمام القوى المحافظة التي تُمسك بالمشهد
الإقليمي حتى الآن.
No comments:
Post a Comment