الفتنة الطايفية التي حدثت في اسمرة ١٩٥٠ كما رواها المفتي الشيخ ابراهيم المختار
مقتل نصر الدين
سعيد واشتعال الفتنة الطائفية (ملحق نبذة عن المطران مرقص).
إستمر الإرهاب
السياسي الذي كانت تمارسه عصابات حزب الإنضمام مع أثيوبيا دون توقف في فترة
تقرير المصير ، وذهب ضحية هذ الإرهاب والعنف عدد من الشخصيات الوطنية من
المسلمين والمسيحيين. وكان من هذه الشخصيات نصر الدين سعيد باشا الذي أغتيل بعد
مضي مايقارب العام على إغتيال عبدالقادر كبيري. ولم تكتفي تلك العصابات بإغتيال
نصر الدين سعيد ، بل حاولت عرقلة مسيرة الجنازة السلمية وكانت النتيجة إشتعال
معركة طائفية دامية إستمرت أياما وتركت أثارا مدمرة. وقد عايش سماحة المفتي هذا
الحدث المؤلم بكل تفاصيله وأبعاده ، وفيما يلي بتصرف وإختصار بعض ماذكره سماحته
في مؤلفه عن هذا الحدث وعن مطران الكنيسة الأرترية.
في الساعة السابعة
والنصف من مساء يوم الإثنين 3 من جمادى الأولى 1369هـ الموافق 20 فبراير 1950
هجم 5 من الإرهابيين على نصر الدين ابن سعيد الجبرتي ، عضو الرابطة الإسلامية ،
ورئيس محطة السكة الحديدية في "إمبادرهوا" - على بعد عشرين كيلو مترا
من مدينة كرن - وهو يؤدي عمله الحكومي ، وقاموا بإصابته بطلقات نارية في جنبه
الأيمن. وقد نقل فورا جريحا إلى مستشفى أسمرة ، ومن حين وصوله إليها قد انتقل
إلى رحمة الله. وسبب قتله أنه كان قد طلب منه الإنضمام إلى حزب الإنضمام والتخلي
عن الرابطة فرفض قبول مطلبهم ، فتوعدوه بالقتل ، ثم قاموا بتنفيذ ذلك العمل
الإجرامي.
حادثة المعركة
الدامية في جنازة نصر الدين سعيد:
وقع مقتل نصرالدين
سعيد وقع الصاعقة على جماهير الناس ، وعم الحزن والغضب الجماهير التي خرجت
بأعداد كبيرة لتوديع جنازته ، والتعبير عن رفضها للإرهاب بكافة أشكاله وألوانه ،
وإعلان تضامنها مع قياداتها الوطنية.
وفي الساعة الثالثة
من مساء يوم الثلاثاء 4 جمادى الأولى 1369هـ الموافق 21 فبراير 1950م تحرك موكب
الجنازة من المستشفى الحكومي بأسمرة ، مكونا من كافة الطبقات والهيئات من
المدارس والجمعيات ، مع شاراتهم وأزيائهم المخصوصة ، وخرجت الجنازة من المستشفى
مغطاة بعلم الرابطة الإسلامية ، ثم سار المشيعون على الترتيب التالي:
1- جمعية شبان الإصلاح
2- جمعة الإخوان
3- جمعية النجاح
4- الجمعية الخيرية
5- جمعية الشبان
6- طلبة المدارس
الإسلامية
7- نعش الشهيد
8-
العلماء وفي مقدمتهم سماحة مفتي أرتريا ، وقاضي أسمرة والحماسين ، وشيخ المعهد
الديني الإسلامي ، وعلماء البعثة الأزهرية المصرية.
9- أعيان المسلمين
ووجهائهم ، ثم الجمهور
، وكان الجميع يمشون في نظام بديع ، مع الهدوء والسكينة ،
والإنضباط التام ، وكان عدد المشيعين يزيد على عشرة الاف شخص. وقد مر موكب
الجنازة بثلاثة شوارع رئيسية حتى وصل إلى المنطقة التى فيها مقر "حزب
الإتحاد مع أثيوبيا" ، وهنا بدأ أنصار الحزب برمي الحجارة على المشيعين
وعلى الجنازة ، ثم أتبعوها برمي 3 قنابل ، وبإطلاق الرصاص وذلك بقصد عرقلت سير
الجنازة وتعطيلها. وقد حاول المشيعون أن يتجاهلوا هذه الإستفزازات وأن يمضوا
قدما ، ولكن تمادي العناصر المعتدية في هجومها جعل بعض الشباب الذين كانوا يحملون
معهم سيوفهم يتجهون نحوهم ويصيبوا عددا منهم ، وهنا اختلطت الجموع مع بعضها في
إشتباكات أدت إلى إمتلاء الطرق بجثث الصرعى والمصابين ، ثم جاء البوليس الحكومي
حالا وأطلق طلقات نارية لتفريق الجمهور ، غير أن ذلك لم يفلح ، ورغم كل هذا فقد
ثابر المشيعون على السير بالجنازة مع جموعهم الكثيرة " تحت وابل من
الحجارة والرصاص والقنابل ، والجمهور يمر فوق جثث القتلى والجرحى تحت دوي الرصاص
وقعقعة السيوف "
واستمر سير الجنازة إلى المقبرة وتم دفنها والمواجهات
مستمرة. وقد قتل وأصيب عدد من الطرفين في هذه المواجهات ، ثم استمر مسلسل العنف
والإقتتال بعد ذلك وبدأ يأخذ منحا طائفيا شارك فيه بعض رجال الشرطة ، وانتشر
النهب وتم إحراق بعض البيوت والدكاكين التجارية. ونظرا لاستمرار الإقتتال ليوم
الأربعاء ، أعلنت الإدارة البريطانية في مساء يوم الأربعاء منع التجول من الساعة
الخامسة مساء إلى الخامسة صباحا. وفي صباح الخميس إبتدأ الشغب مرة أخرى بإشعال
النيران في البيوت والمحلات التجارية ، وقد ظلت عربات المطافئ تدور في الأحياء
طوال اليوم دون توقف ، وفي يوم الجمعة - وهو اليوم الخامس - لما كثرت الحرائق
والإغتيالات نهارا ، أعلنت الإدارة البريطانية منع التجول نهارا إبتداءا من
الساعة التاسعة صباحا إلى الثالثة بعد الظهر مع السماح بساعتين فقط للخروج لقضاء
الحاجيات ، مع بقاء حظر التجول ليلا كما أعلن سابقا. وقد أفاد هذا المنع كثيرا
حيث هدأ الإقتتال وتوقفت الحرائق. وقد أدت هذه الحوادث المؤسفة إلى هجر الناس بيوتهم
وأحيائهم وإنتقالهم إلى أحياء أخرى أو الخروج إلى الأرياف. ولم يسلم من هذه
الإغتيالات النساء والأطفال وكبار السن ، ومن كبار السن الذين قتلوا غدرا كان
الشيخ عبدو إبراهيم الذي قتل عقب إنتهائه من فريضة الظهر ،
و "كان ... شيخا زاهدا محترما ذو وجاهة ، وملازما للتقوى
والصلاح".
وفي مساء يوم
الخميس وبطلب من حاكم عام أرتريا عقد إجتماع في مكتب الحاكم العام بحضور سماحة
المفتي والمطران مرقص ونائبه ، وأعرب الحاكم العام عن أسفه لما حدث في جنازة نصر
الدين سعيد ، ثم طلب من سماحة المفتي والمطران أن يطوفا سويا على جميع المناطق
والأحياء ، ويطلبا من الجماهير وقف الإقتتال والقبول بالمصالحة ، وقد قبل سماحته
والمطران ذلك ، وطلب المطران إضافة أشخاص أخرين يمثلون الكاثوليك والبروتستانت ،
ولكن المحافظ لم يوافق على ذلك بإعتبار أنهم أقليات لا عبرة لهما.
تحرك ركب المفتي
والمطران في صباح يوم الجمعة في أربع سيارات ، الأولى فيها رجال البوليس مع
أسلحتهم ، والثانية فيها مفتش أسمرة ومساعده والمترجم العربي ، والثالثة فيها
المفتي والمطران ، والرابعة فيها قاضي أسمرة والحماسين ونائب المطران. مر الركب
على الأحياء الرئيسية التالية:
"قزا
برهانوا" و "عداقة عربي" و "أكريا" و"عداقة
حموس" و"أباشاول" و"حدش عدي" و"قزاباندة".
وكانت الخطة
المتبعة أن ينادى بالميكرفون في كل حي بالعربية والتجرينية بأن يخرج السكان من
مساكنهم ليستمعوا إلى نصيحة المفتي و"الأبون" وأن البوليس لن يتعرض
لهم بأذى ، وبعد أن يتجمع الناس كان المفتي يخطب أولا ثم
المطران ثانيا في المناطق التي يكثر فيها المسلمون، والعكس في المناطق التي
يكثر فيها المسيحيون ، ثم بعد ذلك ينادى على الجميع بالعودة إلى
مساكنهم. وبعد إتمام الركب المرور بالأحياء المذكورة ، إتجه سماحة
المفتي وبصحبته المطران إلى محطة الإذاعة بأسمرة ، فألقى سماحته كلمة تلتها كلمة
المطران. وقد استجابت الجماهير لنصيحة المفتي والمطران فتوقف الإقتتال ، وإن كان
النهب لم يتوقف إلا بعد 3 أيام حيث نهبت مخازن كثير من تجار
المسلمين. يقول سماحته في تعليقه على توقف الإقتتال :"وفرح بهذا
عقلاء المسلمين والمسيحين جميعا ، وأما صعاليك اللصوص والغوغاء فقد ساءهم توقف
القتال وبدأ المصالحة ، حيث أنهم كانوا قد أغتنموا أموالا طائلة .."
وفي يوم السبت 8 من
جمادى الأولى 1369هـ الموافق 25 فبراير 1950م إجتمع الأقباط عند مطرانهم ،
والمسلمون في الجامع للتشاور فيما يعمل لقطع الشغب نهائيا ، فاتفقوا على أن يحلف
المسؤولون من الطرفين بمنع إعتداء كل من الطائفتين على الأخرى ، وعينوا 4 أشخاص
من الطرفين وكان يمثل الطرف الإسلامي القاضي إدريس حسين سليمان ، والقاضي
عبدالعليم إدريس ، وبلاتة نقاش محمد (شيخ سوق أسمرة) ، والشيخ نور أحمد ليكونوا
جميعا كقضاة بين الطائفتين ، ثم حلف أمامهم 31 مسلما بالقرآن و31 قبطيا بالإنجيل
على أن يمنعوا الشعب من ارتكاب حوادث الشغب والعنف.
ونظرا لانتشار
أخبار هذه الحادثة إلى مناطق أخرى ، وخشية من اتساع الفتنة فان لجنة الصلح
اجتمعت وذهب أعضائها مع بعض الأعيان إلى مقابر القتلى في صباح الأحد 7 جمادى
الثانية 1369هـ الموافق 24 مارس 1951م ، واتجهوا حاملين الزهور
يحملهما من الناحيتين مسلم ومسيحي ، ووضعوا الزهور في مقبرة المسيحيين ،
وتبادلوا الخطب في تناسي ما وقع من الحوادث ، والمحافظة على السلم ، والإبتعاد عما
يخل بالأمن العام ، وفعلوا مثل ذلك في مقبرة المسلمين. وقد شارك في هذه المراسم
جمهور كبير من عوام الناس ، وكان ممثل المسلمين القاضي إدريس حسين سليمان ،
والشيخ سليمان الدين أحمد ، ودقيات حسن على ، وبلاتة نقاش ، ويمثل المسيحيين
مجموعة من القساوسة.
وبعد إنتهاء
الحوادث كونت الحكومة لجنة للتحقيق في خسائر الحادثة وأمرت المنكوبين بأن يقدموا
خسائرهم إلى اللجنة. وقد إستمعت اللجنة إلى شهادة 73 شاهدا ، وانتهت من التحقيق
في نفس الشهر ، "ولكن كان تحقيقا نتيجته عبث لم يترتب عليه شئ".
وقد بلغ عدد القتلى
62 والجرحى 180 ، ويعتقد أن العدد أكبر من هذا حيث تم إخفاء بعض الجثث ودفنها
دون إعلام الجهات الرسمية. أما الخسائر المالية فقد كانت عظيمة جدا، وقد تغلب
الجزع على النفوس بما لم يسبق له مثيل.
|
No comments:
Post a Comment